Saturday, November 7, 2009

في انتظار سيادة المحافظ




العمل في مجال العشوائيات ليس بالشئ السهل علي الاطلاق، فقد تضطر احيانا الي السفر خارج القاهرة و الذهاب الي احدي الاقليم لالتقاط صورة واحدة لوضع ما، ثم تعود و انت في قمة سعادتك... فما بالك لو انه مؤتمر و ورشة عمل و جولة في منطقة عشوائية...؟ و قد كان هذا الوضع تماما، يوم اتصلت بي الدكتورة دينا شهيب (مثلي الاعلي في مجال العمل بالعشوئيات و مشرفة رسالة الماجستير الخاصة بي) يوم الاربعاء و اعلمتني بانه سيقام مؤتمر و ورشة عمل في مدينة الاسماعيلية يوم الخميس و سوف يحضره السيد المحافظ لمناقشة وضع المناطق العشوائية في الاسماعيلية و التنسيق مع الجهات المختلفة كالمجالس المحلية و الجمعيات الاهليه و من هم مثلي من الباحثين المعماريين الاجتماعيين... بالطبع امتلئني الحماس حيث ان الوضع لن يكون التقاط صورة و السلاموا عليكوا، بل سيكون صور و مؤتمر و ورشة عمل و مقابلة السيد المحافظ.

اويت الي الفراش هذه الليلة و بدأت في ترتيب افكاري التي سأطرحها غدا في المؤتمر، حتي غلبني النعاس محتضن افكاري كطفل يحتضن حذائة الجديد ليلة العيد.

استيقظت باكر الخميس باحساس غريب، و كأن اليوم يومي، و كأن يومي كاحد ايام صديقي الكاتب محمد المعتصم في وصف احد ايامة (http://almodawana.wordpress.com/)، و الذي سأحاول ان اصف مثله كيف كان يومي رائع... فكما قلت، استيقظت باكر الخميس حوالي الساعة 5:30 ص، مستشعرا اهمية اليوم و لا استطيع الانتظار (فانا احب عملي الي حد الهوس)، مستقبلا جو رائع، ربيعي يتخلله لمسة سقيع، افطار لطيف خفيف، ارتدي ملابسي المفضلة، اعداد اوراقي، و نزلت من البيت... الجو يزداد جمالا – او انا فقط من يشعر بذلك – ركبت سيارة اختي لأن بها كاسيت و انطلقت مستمعا الي موسيقتي المفضلة... رائع طريق الاسماعيلية صباحا، يفجر حنين ما لا استطيع ان اتعرف تماما حنين الي ماذا، و لكن الشعور موجود. ابدأ في الاقتراب من مدينة الاسماعيلية و يستقبلني مدخلها الرائع من غابات الاشجار، ما هذه المدينة؟ انها رائعة الجمال. اخرجت الكاميرا و بدأت اصور كل ما حولي، حتي انني اصبت بذهول حينما كنت استرجع الصور علي الكاميرا و استوقفتني صورة، اعتقدت انها لوس انجلوس. فقلت " الله يمسيك بالخير يا عبد المنعم يا عمارة" فهو محافظ الاسماعيلية السابق و صاحب الفضل في تحويلها الي تلك الجنه صغيرة.




وصلت اخيرا الي فندق ميركور الذي سيقام فيه المؤتمر، مبني الفندق هو مبني علي طراز عمارة ما بعد الثورة مطعما بلمسة اسلامية. لفت نظري عند دخولي المبني النجف في السقف، حيث ان كل نجفة تستوعب حوالي عشرين لمبة، و لكن ادارة الفندق استعاضت العشرين لمبة بلمبة واحدة فلوريسنت ابيض في كل نجفة، فسألت نفسي، لماذا ابيض؟ من امؤكد انه سيكون قبيحا جدا ليلا. دخلت القاعة التي سيقوم بها المؤتمر حيث استقبلني الدكتور خالد عبد الحليم - ايضا من اكفا العاملين بمجال العشوائيات في مصر – و قام بتعريفي علي الحاضرين و تعريف الحاضرين بي، و قال لي: نحن في انتظار سيادة المحافظ...

القاعة المقام بها المؤتمر ليست بالكبيرة، تتوسطها ترابيزة طويلة، يلتف حولها حوالي خمسين كرسي، يجلس علي تلك الكراسي مجموعات من الحاضرين. لفت نظري الحاضرين، حيث انهم منقسمون الي مجموعات متفرقة. فكانت هناك مجموعة من مرتديين البدل في سن الخمسين و من الواضح انهم مديرين مصالح ما، و نساء بدون كموظفين المصالح من بتوع " يا استاذ، ورقك ناقص" و " تعالى بكرة تاني" و "انت هتعلمني شغلي ولا ايه؟". و مجموعة اخري من النسخة الرجالي من اولائك الموظفات. و رجل يتحدث بالفصحة طوال الوقت و الأخرون من المهندسون المعماريون و الاجتماعيون و حفنة رجال لا اعرف سبب وجودهم، فهم نائمون من قبل ان يبدأ المؤتمر...

دخل رجل القاعة مبلغا الحاضرين بوصول سيارة السيد المحافظ، فانطلقت سيدة من مكانها تطلب من الدكتور خالد ان يقوم باستقبالة قائلة: " قوم يا دكتور استقبل السيد المحافظ... يييه... انت مش لابس بدلة ليه بس يا دكتور؟". انطلق بعض الحاضرين مع الدكتور خالد ليستقبلوا سعادة المحافظ. لم تفت دقيقة من خروجهم من القاعة، حتي دخل رجلا يرتدي بدلة و سيديري، يحمل كل الصفات الشكلية لشخصية القواد، قائلا بابتسامة للجميع: "السيد المحافظ لمل ييجي، هتقوموا تقفوا... هه؟". بصراحة لم ارد اثارة مشاكل حيث ان حضوري كان خدمة من الدكتورة دينا شهيب.

خيم الهدوء علي الجلسة بشكل مفاجئ، و في خلال ثواني كنت قادرا علي سمع خطوات سيادة المحافظ و هو يقترب من القاعة، يقترب اكثر، و اكثر، و اكثر، ها هو صوت حذائة علي الارضية الرخام و اضح جدا، و لسبب ما عرفت صوت حذائة علي الاخص و ليس الذين كانوا باستقبالة. فجأة فتحت ابواب القاعة ليدخل القواد و رجلان من الحاشية يتوسطهم السيد المحافظ و يخلفه الدكتور خالد. يقوم فجأة كل الحاضرين، و بالامانة كنت سأقوم انا الاخر، و لكني غيرت رأيي علي أخر لحظة. لم يكتف الحاضريين بالقيام فقط، بل بدأوا يسقفون، و السيد المحافظ يتخخللهم بتباهي متواضع.

السيد المحافظ هو رجل طويل و عريض و له هيبه، مرتسم علي وجهه جدية غريبة ذكرتني بشكلي كل صباح لحظة استيقاظي من النوم. جلس السيد المحفظ علي رأس التربيزة طبعا ثم جلس الحاضرين جميعا.
قامت سيدة للاشادة بالسيد المحافظ للاهتمام بحضورة للمؤتمر و اهتمامه بمشكلة العشوائيات، ثم قدمت الدكتور خالد ليبدأ العرض الاساسي للمؤتمر و ان اسم المؤتمر " التعامل مع العشوائيات علي ثلاث مراحل". قام الدكتور خالد بشغف يشرح الوضع و كيفية التعامل معه من خلال عرض رائع، حتي انني التهيت مع العرض و نسيت السيد المحافظ. زاغ بصري عن العرض للحظة، لاري السيد المحافظ لا يتابع العرض اطلاقا، فهو لم يكن ينظر الي الشاشة و اعتقد انه لم يكن حتي يستمع الي ما يقال. قضيت باقي العرض في مراقبة السيد المحافظ، و اقسم انه لم ينظر للشاشة و لو مره واحدة.

انهي الدكتور خالد عرضه و جائت اللحظة التي كنت انتظرها، و هي انني سأستمع لرأي السيد المحافظ عن مشكلة العشوائيات و كيفية معالجتها. اعتدل السيد المحافظ في كرسيه المميز عن باقي كراسي الحاضرين، مستهلا كلامه: " لن اتحدث عن العشوائيات...!" فطرأ في بالي مباشرة سؤالا: لن يتكلم عن العشوائيات؟؟ هل سيتكلم اذن عن المانجه العويسي الاسمعلاوي؟. خيب ظني السيد المحافظ بعدم التحدث حتي عن المانجه، بل تكلم عن ان القاعة التي كان سيتم بها المؤتمر تحت الاصلاح و ان بالاسماعيلية بدائل من القاعات لاستيعاب مؤتمرات - في تلك اللحظة اخرجت قلمي و ورقة لكتابة ما تقرأونه الأن – تكلم ايضا عن كيفية ادارة المستشفيات و عن اهمية زيارة مستشفي الاسماعيلية، ثم تحدث عن ترشيد استهلاك الطاقه و عن تجربته في الصين و عن اعجابه بالشعب الصيني في نظامهم و طرقة معيشتهم و نصح الحاضرين بالاقتداء بالصينيين في النوم المبكر و الاستيقاظ المبكر. و بالرغم من اندهاشي لمل اسمعه، الا ان الحاضريين جميعا يهزون رؤوسهم للتعبير عن ادراكهم اهمية ما يقوله سيادة المحافظ. تحدث ايضا عن التوكتوك و عن مشاكله، و انهي كلامه بدعابة خفيفة: " حد عنده توكتوك هنا؟" الجميع يضحكون.

افتتح مجال الاسئلة، فسأله احد الحاضرين عن رغيف العيش – قلت يا مسهل- ، فطمأنه السيد المحافظ و طمأننا جميعا ان نصيب الفرد في الاسماعيلية هو اربعة ارغفة في اليوم و 420 لتر مياه في اليوم. يا حلاوة. هنا فتحت ابواب القاعة ليدخل رجلان يحملان كاميرا، يبدو عليهم انهم من التليفزيون. اعتدل السيد المحافظ في كرسيه و غير تعبير وجهه من المستيقظ للتو الي وجه الفارس الجليل المحب للمصريين بادئ كلامه بشكل سينيمائي مذكرني بأداء نظيم شعراوي في فيلم النوم في العسل قائلا : "الخير كير و الحمد لله".

قام الرجل الذي يتحدث بالفصحه ليسأل هو الأخر، ففجأني بأنه بدأ كلامه بالاشاده بالمانجه الاسمعلاوي..! فطرأت التساؤلات الي ذهني: هل سمع افكاري؟ ام هل راودته نفس الفكره للسخرية من عبث الجلسة؟ هل يتكلم بجدية؟ لم اعرف الاجابة الا انه اكمل كلامه عن وش الاسماعيلية الحلو في ماتش غانا و اضاف انه اهلاوي. انهي الرجل التحدث عن المانجه و كرة القدم و بدأ في السؤال: " ماذا عن العشوائيات يا سيادة المحافظ و ما هي نظرة الدولة للعشوائيات؟" توقف قلبي من الفرحه، اخيرا، و علمت انه كان يسخر من الجلسة مثلي تماما و التفت سريعا لاستمع الي رأي السيد المحافظ الذي انتظره من اول اليوم. رجع السيد المحافظ الي الوراء و اخذ وضعا مسرحيا مجيبه: " موضوع العشوائيات ده موضوع – و بصوت عالي- شااائك"... " و اي حد يقول ان العشوائيات كتيرة في مصر يقوم بنفسة و يعمل حاجة... و يوريني بقي هيعرف يعمل ايه..." و بنبرة اعلي: " اليقول كده ده يبقي رجل (منقوص)" فبدأت في التساؤل... ما معني (رجل منقوص)؟ اهي بمعني ( راجل ناقص)؟
اهي رجل يعاني من عقدة نقص؟

تأكدت حينها انه لا يعلم اي شئ، و انهم صحوه من النوم و قالولوا قوم يا محافظ عندك جلسه و نسوا ان يقولوا له ما هو موضوع الجلسه. تأكد كلامي حين اختتم السيد المحافظ الجلسه بالاشادة بدوره في اعلاء مدينة الاسماعيلية و انجازاته الكبيرة، و لكنه اضاف محمسا قائلا: " قد يظن البعض من كلامي انني اشبه الاسماعيلية بالمدينة ال... اسمها ايه ديه.... المدينة الكاملة..." فعلق احد الحاضريين: "الفاضلة يا سيادة المحافظ" فقال: " اه... المدينة الفاضلة... لأ... لسه قدمنا شغل كتير". تصقيف.

قام السيد المحافظ، فقام الجميع و مضي في حال سبيله.

ذهبنا جميعا الي رحلة ميدانية لزيارة احدي المناطق العشوائية و التي تقع بجوار مساكن شعبية. استوقفني مشهد المساكن الشعبية للانها تقع بجانب خمسة عمارات فاخرة من نفس الشكل، محاطه بسور لفصل هذه العمارات الفاخرة عن المسان الشعبية و بالتالي لفصلها عن العشوائيات... و لكن هذه العمارات الفاخرة بها شئ غريب، فهي نفس ابعاد مباني المساكن من حيث الارتفاع و الطول و العرض، فجائت في ذهني فكرة تمنيت الا تكون صحيحة، حتي اكد لي احد مهندسين التخطيط العمراني ان فكرتي صحيحة و هي ان هذه المباني السكنية الفاخرة كانت في الاصل مساكن شعبية صممت لتأوي الفقراء و الغلابة من سكان الاسماعيلية و لكن باعتها المحافظة لمقاول بسعر ثلاثة مليون جنية للعمارة... و اضاف المهندس ان الشقة بالشئ الفيلاني...




ارتاح قلبي بما قاله السيد المحافظ علي ان الخير كثير و الحمد لله، و علي ان ليس من حقنا أن نقول ان المناطق العشوائية في زيادة مستمرة و ان لا يوجد سبب للتحدث عن العشوائيات اصلا كما بدأ كلامه بل من الواجب تحويل المساكن الشعبية الي اسكان فاخر يأوي الطبقة العليا في مجتمعنا . أشكرك سيادة المحافظ... فلقد بدأت في التفكير بتغيير مسار عملي و حياتي كناشط اجتماعي يساعد في مواجهة الفقر في مصر، الي تاجر مانجه عويسي فص اسمعلاوي من أم 35 جنيه الكيلو.

4 comments:

  1. gamda gedan ... 3agebny awi el fakra beta3et el mo7afez... gamda awi

    ReplyDelete
  2. helwa ya za2za2ouf :)

    ReplyDelete
  3. say3a Geddan! I love it. :)

    ReplyDelete
  4. تصفيق حاد :)

    ReplyDelete